تخطى للمحتوى

الصراع الأيديولوجي في رواية أبناء غورباتشوف للكاتب الروسي ألكسندر أندروشكين

Published: at ٠٣:١٧ م

الصراع الأيديولوجي في رواية أبناء غورباتشوف.

للكاتب الروسي ألكسندر أندروشكين. ترجمة د. باسم إبراهيم الزعبي قراءة بديعة النعيمي

تقع رواية أبناء غورباتشوف في ثلاثمائة وثماني عشرة صفحة تتكون من مجموعة من المقاطع الروائية وعددها خمس وعشرون مقطعا موزعة بالتناوب على أبطال الرواية الثلاث ثم يليها تعريف بالكاتب وأخيرا تعريف بالمترجم. وقد جاء استخدام الكاتب للمقاطع لأنه محكوم بمتغير الزمن والمكان الذي تخضع له شخصيات الرواية .

اختار الكاتب انهيار الاتحاد السوفيتي ذلك المنعطف الخطير الذي أثر لا على الدول السوفيتية فحسب بل على العالم أجمع موضوعا لروايته لأن الساحة العالمية أصبحت ذات قطبية واحدة تحكمها وهي الرأسمالية المتمثلة بالولايات المتحدة الأمريكية. حصل ذلك بسبب الإصلاحات التي بدأها غورباتشوف عندما وصل إلى السلطة عام 1985 وكان الهدف منها بث حياة جديدة في البلاد وعرفت هذه الإصلاحات بالبيريسترويكا والغلاستوس وهي التي أدت إلى ذلك الإنهيار. وقد أثبت الكاتب مقدرته الفنية على إذابة الموضوعات السياسية والقضايا الأيديولوجية التي حاول الكشف عنها في قوالب فنية أنيقة دون أن يغفل عن المكونات السردية للنص سواء من ناحية اللغة ،الأحداث، الشخصيات، الزمان ، المكان، وغيرها من أساسيات البناء الفني للرواية. جاءت عتبتي الرواية العنوان وصورة الغلاف لتدل أحدهما على الأخرى فعنوانها الموسوم “أبناء غورباتشوف” وصورة الغلاف حملت صورة حقيقية لغورباتشوف في الأعلى وجاءت بهذا الشكل لتعكس السلطة الأبوية العليا وفي الأسفل جاءت صورة أبطال الرواية الثلاث وهم الذين يمثلون أبنائه أي أبناء روسيا التي تقع تحت سلطة غورباتشوف وكل واحد منهم مثل صراعا أيديولوجيا مختلفا.

ركز ألكسندر في عمله على الصراعات الدينية بين أبطاله على أرض الاتحاد السوفيتي المنهار لذلك سنتناول في هذه القراءة دراسة الرؤية الأيديولوجية الدينية والصراعات العقدية لكل منهم.

يطالعنا الخطاب الإسلامي في بداية الرواية من خلال الحوارات التي برزت على لسان أحد أبطال الرواية ويدعى موراتالي الذي دخل الإسلام بعد أن كان ملحدا حيث وصل إلى موسكو قادما من طشقند ليفتتح مركزا إسلاميا فيها آملا أسلمة روسيا. ففي ص6 على لسان موراتالي ( أنا المولا موراتالي حاجي رحيمون أتيت لافتتاح المركز الإسلامي الروحي هنا ). ونقرأ ما برز على لسانه من مصطلحات مستمدة من المعتقدات الإسلامية مثل الكعبة المشرفة، مكة المكرمة ص16.

وبالانتقال إلى الخطاب المسمى بالمسيحي ويمثله مارتن بونديس المولود في لاتفيا والذي هاجر بعد انتهاء دراسته إلى الولايات المتحدة وتحول من مواطن سوفيتي إلى مواطن أمريكي حيث انخرط في العمل لدى إذاعة دينية مسيحية وفي نقل الأدبيات إلى بلدان المعسكر الاشتراكي. ويبرز على لسانه ص33 ( إن حياته ملك للمسيح). ثم قام مارتن بإنشاء منظمته التبشيرية الخاصة والتي أطلق عليها اسم السفراء المسيحيون والتي اكتسبت بسرعة قوة مالية وشهرة بعكس المركز الذي أراد موراتالي افتتاحه والذي كان يشكو قلة الدعم المالي وقد جاء على لسانه ص23 ( المشكلة لم تكن فيها ولا في حكومة موسكو المشكلة الرئيسية هي توفير المال للمركز) وهذه المقارنة بين مركز موراتالي ومنظمة مارتن تعطينا فكرة عن قوة الدعم الأمريكي للمنظمات التبشيرية التي بدأت تتناهش روسيا فترة انهيار الاتحاد السوفيتي وأن الكفة دائما ترجح لصالح أمريكا الرأسمالية التي أرادت تحويل روسيا إلى بلد كاثوليكي. وبالمقابل كان بطلنا الثالث المدعو الأب فاسيلي وهو كاهن روسي أرثوذكسي يُدرّس في الجامعة المسماة المسيحية المفتوحة والذي اعترض في الاجتماع الذي عقده مارتن ممثلا عن منظمة سفراء المسيحيين ص49( المسيحية المفتوحة يجب أن لا تكون أداة دينية معادية لروسيا) ومن هنا نشأ الخلاف بين فاسيلي ومارتن.

تتطور أحداث الرواية ويصل الصراع أوجه حينما يتحول خطاب فاسيلي إلى لا ديني فيسعى إلى تجديد الدين من خلال نبذ ما يسمى بالدين المسيحي من خلاله هو شخصيا حيث يحاول تنصيب نفسه كما يقول السارد إلها فيبدأ اجتماعاته ورحلاته ليقنع أكبر عدد ممكن بأفكاره.

وأبطال رواية أبناء غورباتشوف يعيشون حالة من الضياع الفكري والنفسي لذلك فهم دائما ما يلجأون إلى طرح الأسئلة فعلى لسان فاسيلي نجده يطرح سؤالا عقديا ص66 ( هل تحتاج الإنسانية إلى المسيح حقا؟) . أما مارتن ص236 فقد تسائل عندما تعرض لضغط أحد الأميركيين في منظمة السفراء ( لا يمكن حل أي شيء من دون قوة ! ترى، هل جاء المسيح بالسلام أم بالسيف؟ ) وعلى لسان موراتالي مخاطبا المفتي ص278( فكيف بي أن أحمل القيم التي لا أكاد أعرفها؟؟)يواصل السرد الروائي إبراز الصراع العقائدي ،الصراع المدفوع بحب المال والسيادة وتشكيل اللبنات والرؤى الفكرية لشخصيات الرواية. فأبطال أبناء غورباتشوف لجأوا إلى الدين من أجل المصالح المادية مثل الحصول على حيوات أفضل من خلال الحصول على المال ويتضح هذا ما جاء على لسان موراتالي ص165( لقد حققت الكثير من مأثرة الإيمان، العيش من أموال دائرة الإفتاء في شقة فسيحة…) وما جاء عن فاسيلي بأنه عمل في منظمة المسيحية ص65( مع توفر المال عمل فاسيلي في منظمة المسيحية المفتوحة. دفعوا له لقاء بضع محاضرات ألقاها مقدار ما تدفع الدولة لمعلم لقاء نصاب محاضرات كاملة…كان الاب فاسيلي يعي أنه متورط وغير نظيف). وعن مارتن يقول السارد ص40( من المفترض أن مارتن قد زكي في المراتب العليا من الكنيسة الأميركية وسرعان ما أصبح من المسلم به بالعقل أن يحصل السفراء على قطعة من كيكة الميزانيات التبشيرية العديدة في الولايات المتحدة)

وفي النهاية انهار الفكر الذي حمل هذا الخطاب نتيجة السعي وراء الغايات السياسية والمادية. وقد جاءت رواية أبناء غورباتشوف انعكاسا لفترة تغص بالاضطرابات الفكرية والنفسية التي تكلمنا عنها أعلاه بعد انتقال الاتحاد من الإلحاد إلى حرية الاختيار. بنيت الرواية على عدة تقنيات منها تعدد الأصوات لخدمة تباين الأفكار الأيديولوجية التي طرحتها الرواية كما أن الكاتب اعتمد على أسلوب التقطيع في سرد الأحداث كما ذكرنا في بداية القراءة لتتناسب مع زمن الأحداث ومكانها وعلاقتها بأشخاص الرواية وتباين الرؤى واختلافها لكل منهم.كما نجح ألكسندر في جعل شخصياته واقعية بكل ما حملت بداخلها من تناقضات وصراعات نفسية واضطرابات فكرية لذلك فقد استحوذت على الوجود الروائي فهي التي قادت الأحداث وطورتها وأعطتها بعدها الحكائي فقد تقاطعت مع الزمان والمكان من خلال احتكاكها بهما كما استطاع الكاتب أن يخفي أيديولوجيته خلف تلك الشخصيات مما منح الرواية موضوعيتها. وإلى جانب موضوع الرواية الرئيسي فالقارئ لأبناء غورباتشوف يلاحظ بوضوح شغف الكاتب بوصف المكان وحغرافية البشر ونجاحه في الغور عميقا في دهاليز النفس البشرية لشخصياته وتبيان العقد النفسية والصراع الداخلي الذي تعاني منه كل واحدة منها.

بقي أن نقول بأن هذا العمل المهم هو من الأعمال المترجمة من الروسية إلى العربية ومن المعلوم أن ترجمة الروايات مهمة ثقيلة تأخذ حيزا كبيرا من الوقت من المترجم كما تتطلب كتلة من المجهودات المبذولة. والقارئ لهذه الرواية لا بد أن يكتشف ذلك المجهود الكبير والدقة التي بذلت لترجمتها.